زيارة بوتين لباكو- ردم الثغرات ومواجهة النفوذ الغربي المتصاعد

حلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيفًا على باكو، درة أذربيجان، في زيارة رسمية انطلقت يوم الأحد الموافق 18 أغسطس/آب الجاري، ومُقدَّر لها أن تستمر يومين. وعلى ضفاف بحر قزوين، التقى بوتين بنظيره الأذربيجاني إلهام علييف، حيث تباحثا في سُبل تنمية العلاقات الإستراتيجية الوطيدة وتعزيز التحالف الروسي الأذري المتين. وبالإضافة إلى ذلك، تناولا القضايا الدولية والإقليمية الآنية، وفقًا لما أوردته وكالة الأنباء الأذرية الرسمية.
إن ثغرة الدفرسوار، أو ما يُعرف أيضًا بعملية "أبيري- ليف"، هي تلك العملية العسكرية الإسرائيلية التي دارت رحاها في قلب قناة السويس خلال الفترة من 15 إلى 23 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1973، إبان حرب أكتوبر (حرب الغفران). لقد أفضى هذا الحدث الجلل إلى تعقيد مسار الأحداث بشكل كبير، خاصةً وأنها وقعت في نهاية حرب أكتوبر/تشرين الأول، حينما تمكّن الجيش الإسرائيلي من محاصرة الجيش المصري الثالث الميداني الباسل.
لقد كشفت وكالة الاستخبارات الأميركية عن معلومات غاية في الأهمية لتل أبيب بشأن ما أُطلق عليه اسم "ثغرة الدفرسوار". تجلّى ذلك عندما اخترقت طائرة الاستطلاع الأميركية المتطورة "إس آر-71" سماء مصر في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وغطت جبهة القتال بأكملها، الأمر الذي مكّن إسرائيل من الحصول على صور جوية دقيقة وإحداثيات مفصلة عن كامل المنطقة الواقعة بين الجيشين الثاني والثالث، وهو ما مهّد الطريق أمام تنفيذ عملية ثغرة الدفرسوار.
لقد منحت هذه الثغرة نصرًا، وإن كان معنويًا، لإسرائيل، وساهمت في تعزيز مكانتها بعد تلك الصورة الباهتة للهزيمة التي ألمّت بها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، لحظة الهجوم المشترك الذي شنّه الجيشان المصري والسوري؛ بهدف استعادة قناة السويس ومرتفعات الجولان، اللتين احتلتها إسرائيل بعد حرب النكسة عام 1967.
يبدو جليًا أن الرئيس بوتين مُلمّ بتاريخ المنطقة، ومدرك تمام الإدراك أن أي شرخ أو اختراق في مناطق نفوذ روسيا قد تجد فيه واشنطن "ثغرة الدفرسوار" التي تطمح إليها. فما بالنا إذا كان الأمر متعلقًا بالمنطقة الاستراتيجية الواقعة على بحر قزوين، والتي تمثل الحلم الأميركي الدائم لترسيخ نفوذها هناك. فالولايات المتحدة تنظر إلى هذه المنطقة باعتبارها كنزًا عائمًا على مصادر الطاقة، لا سيما الغاز الطبيعي المسال، فضلًا عن موقعها الإستراتيجي الذي يُعد حجر عثرة أمام طموحات بوتين، ويُعيق مشروع "الطريق والحزام" الصيني الطموح، كما أنه يساهم في محاصرة إيران في أشد أعدائها، وهي باكو.
قد تبدو الزيارة في ظاهرها عادية، كأي لقاء يجمع بين دولتين متجاورتين تعقدان الاتفاقيات وتبحثان عن مصالحهما المشتركة. بيد أن هذه الزيارة تحديدًا، وفي هذا التوقيت الحساس، لا يمكن تصنيفها ضمن خانة "الزيارات الروتينية". فهي تأتي بعد قطيعة روسية دامت قرابة ست سنوات، حيث كانت آخر زيارة لبوتين إلى باكو في عام 2018، كما أن العلاقات بين البلدين شهدت المزيد من التوترات، لا سيما أن باكو لطالما اتهمت موسكو بالتحيّز إلى جانب أرمينيا في صراعهما الطويل الأمد على إقليم قره باغ المتنازع عليه. الجدير بالذكر أن الحرب التي استمرت لأكثر من قرن حسمتها أذربيجان لصالحها في سبتمبر/أيلول 2023 بـ "غطاء" روسي.
إن الأمر لا يتعلق فقط بحجم الشراكات أو التفاهمات التي تمّت بين البلدين، بل بالزيارة في حد ذاتها وتأثيراتها على المستويين السياسي والإستراتيجي، خاصةً وأنها أتت بعدما شعرت روسيا أن يريفان تسير في اتجاه معاكس للدول التي تقع في فلك الاتحاد السوفياتي سابقًا. فمنطقة القوقاز تُعتبر بمثابة الحديقة الخلفية لروسيا، ولهذا السبب يسعى بوتين جاهدًا إلى سد كافة الثغرات التي من شأنها أن تسبب له "إزعاجًا"، خاصةً وأنه يخوض حربًا طاحنة في أوكرانيا، لا سيما بعد التطورات الميدانية المتسارعة التي تمثلت في اختراق القوات الأوكرانية لأراضٍ روسية في منطقة كورسك والسيطرة على مساحة تقدر بحوالي 1150 كيلومترًا.
ترى يريفان أن موسكو قد خذلتها أمام باكو، وهو ما دفع أرمينيا إلى اتخاذ خيار التوجه نحو الغرب، وقامت باستفزاز روسيا من خلال المناورات العسكرية المشتركة التي أجرتها في يوليو/تموز الماضي تحت اسم "إيغل يارتنير 2024" مع القوات الأميركية. هذا التطور يعكس وتيرة متسارعة ونوعية جديدة في التقارب بين يريفان والمنظومة الغربية، الأمر الذي قد يضر بشكل بالغ بالعلاقات التاريخية العريقة مع روسيا.
تحتاج موسكو إلى هذه الزيارة من أجل المضي قدمًا في توطيد علاقاتها مع باكو بعد الفراق الذي حدث مع يريفان، فهي ترى أن هذه الزيارة قد تقطع الطريق على أميركا من استغلال العداوة المستحكمة بين باكو وطهران، ولا تسمح لها باستغلال ثغرة دفْرسوار جديدة. فالولايات المتحدة تعزز من وجودها ونفوذها من خلال شريكتها إسرائيل، التي تربطها بأذربيجان علاقات تاريخية متميزة، حيث تقع على أراضيها أضخم قاعدة عسكرية تجسسية إسرائيلية على الحدود الإيرانية، كما أن باكو تُعتبر من أكبر مستوردي السلاح الإسرائيلي.
هذه الثغرة التي يسعى بوتين جاهدًا إلى ردمها ترتبط أيضًا بنية موسكو في فتح قنوات الحوار والتلاقي بين إيران وأذربيجان. فتحسين العلاقات بين البلدين سينعكس بالإيجاب على الحلف الثلاثي الذي نشأ مؤخرًا على حساب سوريا بين تركيا وإيران وروسيا. فالعلاقة الوطيدة التي تجمع بين رجب طيب أردوغان وبوتين قد مهّدت طريق بوتين إلى باكو، وقد تمهّد الطريق من باكو إلى طهران في مسعى جاد للالتفاف على مصالح أميركا في المنطقة.
إن الالتفاف وردم الثغرات ليسا الهدفين الوحيدين من هذه الزيارة، بل إن الثغرة التي تؤرق بوتين تتعلق بقرار باكو زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال خلال العام الجاري (2024) إلى ما يقارب 24 مليار متر مكعب إلى أوروبا. فهي بذلك تستفيد من زيادة الطلب الأوروبي المتزايد في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وسعي دول القارة العجوز إلى البحث عن إمدادات بديلة لغاز موسكو.
ربما لا يستطيع بوتين مصارحة علييف بهذا الأمر بشكل مباشر، لا سيما وأنه يدخل في صميم المصالح العليا للبلاد بغض النظر عما قد تحمله الزيارة من انطباعات إيجابية يمكن البناء عليها في المستقبل. ولكن قد يعتمد بوتين بالتعاون مع حليفه أردوغان على إقناع باكو بدعم مشروع البلدين المرتبط بإنشاء مركز لتصدير الغاز الطبيعي في تركيا. وبهذه الطريقة، يسحب بوتين ورقة الغاز الأذري المصدر إلى أوروبا ويضعها في يد حليفه التركي بهدف ممارسة ضغوط أكبر على الغرب.
تُعتبر منطقة القوقاز ودول بحر قزوين من المناطق التي يسهل على الغرب اختراقها وفتح ثغرات دفْرسوار جديدة فيها، والعمل على تطويق مشروع بوتين لإعادة الإمبراطورية الروسية إلى سابق عهدها. ولهذا، قد تنجح تلك الزيارة في تحقيق أهدافها الظاهرية، ولكن في الواقع هناك الكثير من العقبات والتحديات التي تواجه موسكو على الأراضي الأذربيجانية، التي تشهد علاقات معقدة ومتشابكة مع الدول الغربية، مما قد يصعب المهمة على بوتين، خاصةً وأنه غارق اليوم في مستنقع أوكرانيا، حيث تشهد الحرب هناك تطورات ميدانية متلاحقة كل يوم.